"أنا حامي، أنا متطوع، أنا منقذ، أنا سوري"، هكذا يعّرف عن نفسه كلٌّ من المتطوعين في إحدى أكبر المنظمات المدنية السوري ليُضيف رائد الصالح، مدير "الخوذ البيضاء" حالياً "قد يكون شعارنا قوله تعالى "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" أفضل تعريف لمنظمتنا التي هي عبارة عن شباب متطوعين فضّلوا أن يكونوا في طريق الحياة على أن يختاروا طريق الموت".
ولكن كيف اجتمع كل هؤلاء المتطوعين تحت مظلة "الدفاع المدني السوري" أو "الخوذ البيضاء"؟ يخبرنا الصالح أن البداية كانت عام 2013 عندما أسست مجموعات مختلفة فرقاً تقدّم خدمات البحث والإنقاذ في مناطق متفرقة من سوريا. ويتابع "في أكتوبر 2014، اجتمع نحو 71 شخصاً من قادة هذه الفرق التي كانت تحمل أسماء متنوعة مثل الدفاع المدني، فريق الإنقاذ، فوج الإطفاء، فريق البحث، فريق الطوارئ.. خلال هذا الاجتماع، لاحظنا أننا نتشارك القيم والمبادئ ذاتها وقررنا أن نجتمع تحت مظلة وطنية تخدم كل السوريين باسم الدفاع الوطني السوري ووقعنا ميثاق المبادئ الذي ينص على مهام الدفاع المدني الـ 15 والتزامنا بإعلان جنيف الذي ينظّم عمل الدفاع المدني في العالم لخدمة الجميع بغض النظر عن عرقهم ودينهم".
وهكذا انطلقت المنظمة التي تميّزت أيضاً بتنظيمها انتخابات سنوية لاختيار قادة وإدارة جديدة لمراقبة حسن سير العمليات.
أما في ما يتعلّق بتسمية "الخوذ البيضاء"، فيخبرنا الصالح أنه، عام 2015، خلال اجتماعات لهم في الأمم المتحدة في الولايات المتحدة، نصحهم العديد من الناشطين باختيار اسم يرمز أكثر للسلام لأنهم يساعدون الناس ولا يتدخلون في السياسة، فأطلقوا عليهم "الخوذ البيضاء" التي يرتدونها خلال عملياتهم وصار الاسم أكثر تداولاً في العالم.
تمتد أعمال "الخوذ البيضاء" في 9 محافظات وتضمّ تقريباً 3290 متطوع ومتطوعة في حوالي 160 مركزاً، من مراكز بحث وإنقاذ ومراكز نسائية ومراكز مخلّفات حروب.
وحتى اليوم، يخبرنا الصالح أن عدد شهداء المنظمة بلغ 198 في حين فاق عدد الجرحى الـ 550، معظمهم عاودوا أعمال التطوع في حين البعض الآخر أصيب بحالات عجز. أما عدد الضحايا الذين أنقذوها، ففاق الـ 97 ألف.
ويتوقف الصالح في حديثه عند الفرق النسائية التي تعتبر أساسية في "الخوذ البيضاء" "إيماناً بأهمية دور المرأة وعملها في المجتمعات وهي جزء لا يتجزأ من أي عمل ولو كان فيه صعوبات". ويواصل حديثه قائلاً "في تموز 2013، كان فريقي أول فريق يضم 5 نساء في ريف جسر الشغور إلا أن ضعف الإمكانيات والظروف المحيطة جعل عدد النساء قليلاً".
ويواصل حديثه قائلاً إنه "بداية 2016، وضعنا خطة شاملة لتمكين المرأة ضمن "الخوذ البيضاء" وأيضاً في المجتمع. وشملت الخطة افتتاح 54 مركزاً نسائياً في كل سوريا؛ مراكز تضمّ قابلات وممرضات متخصصات". ويضيف "عملنا بالتعاون مع مديريات الصحة وافتتحنا المراكز التي باتت تقدم الإسعافات الأولية والتوعية بالأمن والسلامة في المنازل وكيفية التعامل مع الأطفال أثناء القصف وتدريبات للبحث والإطفاء والإنقاذ في الحالات الخاصة التي يتدخّل فيها الفريق النسائي. وحتى الآن افتتحنا 42 مركزاً".
مراكز متعددة في مختلف المناطق السورية تعتمد بشكل رئيسي على أهل البلد. وهنا يشرح لنا الصالح "بصراحة، نحن حاولنا العمل بمختلف المناطق ولكن كنا نصطدم بالإجراءات والتراخيص. في كل منطقة، نعتمد على أبناء هذا المجتمع لأنهم يملكون إمكانية التواصل مع السكان المحليين ومع وجهاء البلد. وهذا ما يسّهل العمل كثيراً. نحن نتواصل دوماً معهم ونشرح لهم شروط العمل معنا. وبالتالي، نختار أفراداً من نفس المجتمع ولكن نحن ندرّبهم ويعملون بحسب نظامنا الداخلي ويوقّعون على ميثاقنا".
تعمل هذه الفرق من دون كلل أو تعب لتقديم الخدمات التي تختلف من يومٍ إلى آخر. وهنا يقول الصالح "كل يوم نتعرض لحالات مختلفة. قبل توقيع اتفاقيات خفض التصعيد في سوريا، كان الوضع مختلفاً لاسيما مع القصف الجوي الذي حتّم الكثير من عمليات البحث والإنقاذ كما يجب التشديد على أن الوضع يختلف من منطقة إلى أخرى".
ويشرح لنا أن عادة يلتزم المتطوع بـ 24 ساعة متواصلة في المركز ليرتاح خلال الـ 48 ساعة المقبلة ما يسمح له بالعمل. ويتابع "يبدأ العمل بالمركز حالياً عند التاسعة صباحاً حينما يقوم المتطوعون بالكشف على الأجهزة والآليات والمعدات للتأكد من جاهزيتها ثم يشربون الشاي والقهوة. أثناء النهار، إذا حصل قصف، تتمّ عمليات البحث والإنقاذ ولدينا شخص نطلق عليه لقب "الراصد" الذي يراقب الأجواء وشخص يستقبل طلبات الحرائق والإنقاذ عبر الأجهزة اللاسلكية. إذا لم تحصل أي حوادث، نراجع المواد التوعوية التي نقدمها للناس، ونمضي فترة بعض الظهر في لعب كرة القدم أو كرة الطائرة. ونمضي السهرة نتحدث فيها عن كيفية تقديم خدمات ومهام أفضل للناس للحفاظ على طريقة عملنا".
وكما ذكرنا أن كل أعضاء "الخوذ البيضاء" هم من المتطوّعون الذين لا يملكون خبرة في عمليات البحث والإنقاذ. وبداية عملهم وحتى نهاية 2015، تلقّوا تدريبات في تركيا بالشراكة مع عدد من المنظمات الدولية. أما اليوم، فيتّبعون التدريب داخل سوريا حيث يملك الدفاع الوطني السوري حوالي 60 مدرباً و7 مراكز تدريب.
كل هذه المهمات لا يمكن اتمامها بهمّة وإرادة المتطوعين فحسب لا بل تحتاج إلى تمويل يُخبرنا الصالح أنه متعدد المصادر. فإضافة إلى الحملة السورية التي أطلقوها لبناء حركة عالمية من الاتحاد والعمل في سبيل مستقبل سلمي وكريم لكل السوريين ولجمع التبرعات من الناس للدفاع المدني، تعتمد "الخوذ البيضاء" على مصادر أخرى. ويخبرنا الصالح أنّ "المصدر الأول هو تمويل دولي من اليابان وهولندا والدانمارك وفرنسا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة وغيرها من الدول. ثم لدينا تمويل من المنظمات غير الحكومية وتمويل آخر من الشركات الخاصة مثل شركات التقنيات أو البترول التي تموّل العمليات الإنسانية. وأخيراً، نعتمد على التمويل الشعبي المباشر على موقعنا. وبصراحة، هذا التمويل مؤثر جداً. فقد تبرّع أكثر من 700 ألف بأكثر من 11 مليون دولار".
تمويل يساعد "الخوذ البيضاء" على شراء المعدات، والديزل، وسيارات الإطفاء، وسيارات الإسعاف إضافة إلى دفع رواتب الفريق الإداري المؤلف من حوالى 30 شخصاً. ويضيف الصالح أن "المتطوعين يحصلون على مكافآت بحسب توفّر الأموال تصل إلى حدود الـ 150 دولار".
كل ما يحاول متطوعو "الخوذ البيضاء" من تقديمه لكل أطياف المجتمع السوري جذب إليها الكثير من الاهتمام الدولي وأيضاً انتقادات النظام السوري. ويعتبر الصالح أن الاهتمام الدولي هو سيف ذو حدّين، شارحاً "الحد الإيجابي هو أن هذا الاهتمام ساعدنا لتعزيز إمكانيات الفرق وجودة الخدمات التي نقدمها للمدنيين عن طريق الحصول على دعم دولي من الكثير من المنظمات حول العالم وساعدنا في الحصول على تبرعات كثيرة من الناس العاديين". ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الاهتمام اتّخذ الكثير من الأشكال مثل الفيلم الوثائقي الذي حصد جائزة أوسكار أو ترشيح "الخوذ البيضاء" للفوز بجائزة نوبل للسلام أو حصولهم على جائزة "صناع الأمل" التي ساهمت في حصولهم على المزيد من اهتمام المجتمعات العربية.
أما الشق السلبي، فيقول الصالح إنه "ازدياد التركيز الاعلامي علينا. وبالتالي، عند ارتكاب أي خطأ مخالف للمعايير، تنهال علينا الانتقادات. نحن لا نملك المهنية والخبرة لنعمل من دون أخطاء مثل المنظمات الكبيرة. ويستغلّ النظام هذه الأخطاء من أجل اتهامنا بأننا منظمة إرهابية".
منظمة ارهابية ليس إلّا اتهام واحد من أصل العديد من الاتهامات الأخرى مثل أن "الخوذ البيضاء" هي الذراع الطبي لداعش أو تابعين لجبهة النصرة أو عملاء للمخابرات الأمريكية أو البريطانية أو التركية أو الخليجية أو الإسرائيلية. حتى أن النظام السوري لا يكتفي بالاتهامات لا بل يستهدف "الخوذ البيضاء" مباشرة من خلال قصف المراكز. لكن الصالح يُشدّد على أنهم لا يردّون على اتهامات النظام لأن همّهم الأول والأخير هو مساعدة الناس وتأدية واجبهم الأخلاقي ويعتبرون أن عملهم مع العديد من المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية والهلال والصليب الأحمر وغيرها خير تعبير عن نشاطاتهم.
منذ سنوات ويواصل "الخوذ البيضاء" عملهم حاصدين العديد من لحظات الحزن والفرح. وهنا يخبرنا الصالح "عندما ترتكب المجازر ويسقط الكثير من الضحايا، نعيش حالة حزن وصدمة نفسية ولكن في نفس الوقت، قد تجد طفلاً حيّاً تحت الأنقاض، فهذا يمنحك الأمل والطمأنينة لنستمر لأننا نشعر أننا حققنا انجازاً".
ويبقى الأمل الأكبر، بحسب الصالح أن "تتوقف الحرب والقتل وأن تتحوّل "الخوذ البيضاء" من أفرادٍ ينقذون لأفرادٍ يساهمون في مدّ جسور الأمل والسلام والتواصل بين المجتمعات السورية ويساعدون بإعادة الإعمار وإزالة مخلفات الدمار والحروب لتهيئة البنية كي تعود الناس إلى ديارها. هذا أملنا وهدفنا. نحاول أن نكون حجراً ولو صغيراً في عملية بناء السلام الذي سيحلّ في سوريا".