بحث
أول خط ساخن للوقاية من الانتحار في العالم العربي يمنح الأمل لجانب الصحة النفسية

تشهد البلدان الإسلامية أعلى معدلات للانتحار ومشاكل الصحة النفسية في العالم وذلك وفقًا لبحث أجراه معهد القياسات الصحية والتقييم التابع لجامعة واشنطن. وقد أقدم حوالي 30,000 على الانتحار في عام 2015، بزيادة قدرها 100% منذ عام 1990.

 

ولطالما اعتُبرت الصحة النفسية، وبالأخص الانتحار، من أكثر المواضيع المثيرة للجدل التي يُحظر الخوض فيها في منطقة الشرق الأوسط. كما أن الافتقار إلى الفهم، المصحوب بقلة الموارد المتخصصة في الصحة النفسية، يؤدي إلى تفاقم هذا الوباء.

 

لقد كانت المنطقة في السابق رائدة التطور في مجال الطب النفسي، بل وشهدت إنشاء أول مستشفى للطب النفسي في العالم في بغداد في عام 705 الميلادي، كما أنشئ مستشفى آخر في القاهرة في عام 800 الميلادي وآخر في دمشق في عام 1270 الميلادي، وذلك بحسب ما ورد في مجلة الطب النفسي العامة "ذا أنالس أو جنرال سايكايتري". ومثلما حدث مع جوانب التقدم الاجتماعي الأخرى في الشرق الأوسط، حل الجمود والتأخر محل الابتكار.

 

وفي خضم ذلك كله، جاءت جمعية إمبريس، وهي جمعية خيرية للصحة النفسية يقع مقرها في لبنان، لتستأنف التطور في مجال الصحة النفسية بإطلاق أول خط مساعدة هاتفي للوقاية من الانتحار.

 

وفي تعليقها على ذلك، تقول ميا عطوي، الشريك المؤسس لجمعية إمبريس: "يعد هذا الخط الساخن هو الأول من نوعه في المنطقة لمواجهة محاولات الانتحار التي يُقدم عليها من يعانون من أفكار انتحارية. ويستهدف هذا الخط أيضًا الأفراد الذين يعانون من الاضطراب النفسي، أو الذين يشعرون بالقلق من أن يحاول أحد الأشخاص ممن حولهم الانتحار أو أن تكون لديه مشاكل نفسية".

 

استعانت الجمعية بخبراء دوليين لتدريب 30 متطوعًا يتعاملون مع خمس حالات يوميًا في الوقت الحالي - أشخاص يتصلون بالجمعية لمعاناتهم من مختلف حالات اليأس. ويمكن إحالة الأشخاص ممن لديهم أفكار انتحارية إلى شبكة إمبريس، التي تشمل مستشفيات وغرف طوارئ تقدم الدعم والمساعدة النفسية.

 

وتوضح ميا عطوي ذلك قائلة: "لا يتدخل القائمون على الخط الساخن إلا في حالة وجود أزمة وشيكة، حيث يزودنا المتصل بالمعلومات اللازمة، والتي تُرسل إلى جمعية الصليب الأحمر الذين يزورون الموقع لمنع محاولة الانتحار".

 

وتتراوح مدة معظم المكالمات بين نصف الساعة إلى الساعة تقريبًا، ويبذل خلالها المتطوعون المساعدة من خلال منح الأمل لتقليل خطر احتمال الانتحار. تتوقع جمعية إمبريس استقبال حوالي 2,000 مكالمة سنويًا.

 

ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، يصل معدل حالات الانتحار في لبنان إلى 3.1% من بين كل 100,000 شخص. ورغم أن هذه النسبة تعتبر أقل من بعض الأماكن، كالولايات المتحدة الأمريكية التي تصل بها معدلات الانتحار إلى 13.5%، فإن ذلك يعني أن شخصًا واحدًا يُقدم على الانتحار كل ثلاثة أيام.

 

وفي هذا الصدد، تقول ميا عطوي: "لبنان بلد صغير، وعندما تحدث حالة انتحار فهي تؤثر على الكثير من الناس. ولهذا الأمر أثر أكبر بكثير من البلدان الأخرى، إذ أنه يؤثر على الأسرة والأصدقاء والقرية والمجتمع والثقافة".

 

عندما يقدم شخص من القرية على الانتحار، فإن ذلك قد يحفز الآخرين في محيطه على تقليده، وهذا ما لاحظه فريق العاملين في جمعية إمبريس. وتوضح ميا عطوي ذلك قائلة: "نعتقد أن 90% من حالات الانتحار تحدث نتيجة لأمراض نفسية قابلة للعلاج، حيث يعاني واحد من بين كل أربعة أشخاص من مشكلة نفسية في مرحلة ما من حياته".

 

تعتبر البيانات المتعلقة بانتشار الاضطرابات النفسية في المنطقة محدودة. وفي أحدث دراسة لمعهد القياسات الصحية والتقييم، حدد المعهد عبء الصحة النفسية لكل بلد بحساب عدد سنوات الحياة الصحية المتوقعة التي تُفقد بسبب المرض النفسي.

 

تعاني فلسطين من أعلى عبء للاضطرابات النفسية في المنطقة. وباستثناء مصر، فإن دول منطقة الشرق الأوسط تعاني من أعلى عبء للاضطرابات النفسية مقارنة بالمعدل العالمي. وتعتبر حالات الاكتئاب هي أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا في المنطقة، تليها الاضطرابات المتعلقة بالقلق النفسي.

 

ومن جانبه، صرح راغد شرارة، وهو طبيب نفسي مقيم في المركز الطبي للجامعة الأمريكية في بيروت وزميل معهد القياسات الصحية والتقييم، قائلًا: "منذ عام 1990، ارتفعت معدلات العبء النفسي للنساء بشكل مستمر عن الرجال في المنطقة، وذلك على غرار الاتجاه العالمي. ونعتقد أن مشاركة المرأة في القوى العاملة ساهم في ذلك".

 

ولا يعني ذلك أن النساء اللاتي تعملن أكثر احتمالًا للمعاناة من الاضطرابات النفسية، لكن العبء الوظيفي، بأجر أقل من الرجال، بالإضافة إلى الأعباء المنزلية التي تقع على عاتقهن في نفس الوقت، تسبب مزيدًا من الضغط النفسي على النساء.

 

ساهمت الوصمة المرتبطة بالأمراض النفسية في المنطقة إلى نقص التمويل وعدم رغبة الكثير من الأطباء بالعمل في مجال الطب النفسي.

ويوجد في لبنان أخصائي طب نفسي واحد لكل 45,000 شخص، وتعد هذه النسبة الأعلى في المنطقة وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، بينما تسجل اليمن أقل نسبة بمعدل أخصائي واحد فقط لكل 200,000 شخص. وبحسب السيد شرارة، فإن معدل الإنفاق على الصحة النفسية في المنطقة يبلغ 0.15 دولار أمريكي لكل شخص، بينما تنفق الولايات المتحدة الأمريكية 3 إلى 4 دولارات أمريكية على الشخص الواحد.

 

يشكل نقص الإنفاق والأطباء النفسيين مشكلة تتسبب في عدم اكتشاف حالات الاضطرابات النفسية أو الخطأ في التشخيص.

 

وهذا ما أدركه السيد رجا صبرا، الناشط في مجال الصحة النفسية، من خلال تجربته الشخصية،

 

حيث يقول في هذا السياق: "يعتقد الكثير أن الأمراض الجسدية هي التي يمكن معالجتها عن طريق الأدوية والجراحة، لكننا نميل إلى تجاهل كل ما يتعلق بالعقل والمشاعر، لكونها غير ملموسة".

 

كان السيد صبرا قد تم تشخيصه على نحو خاطئ بأنه يعاني من اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه وصُرف له دواء ريتالين.

 

وعن ذلك، يقول: "أصبح تفكيري مشوشًا، حيث أتكلم بسرعة ولا أستطيع تنظيم أفكاري، وازدادت حالتي سوءًا بعد بضعة أيام من بدء العلاج كما ازدادت الهواجس في ذهني".

 

اتضح لاحقًا أن السيد صبرا كان يعاني في الواقع من الوسواس القهري، وقد وُصفت له أدوية مضادة للاكتئاب. وبدأ العلاج يعطي مفعوله، لكنه احتاج أيضًا إلى العلاج النفسي للتغلب على القلق.

 

من جانبها، علقت مي السيد، مؤسسة عيادة بيتر سويت للعلاج بالتنويم المغنطيسي ومقرها في الإمارات العربية المتحدة، على ذلك قائلةً: "بالنظر إلى أن العلاج النفسي والاستشارات النفسية غير مشمولة في التأمين الصحي في كثير من البلدان في منطقة الشرق الأوسط، فإن هذا يجعلها أمرًا اختياريًا، وليس ضروريًا. ويشير ذلك بشكل غير مباشر إلى أن مجتمعات معينة هي التي يمكنها السعي للحصول على العلاج النفسي، وهم أولئك الذين يستطيعون تحمل التكاليف".

 

ربما تكون التكاليف المادية هي العائق الرئيسي أمام العلاج الفعال، فالاستشارات الطبية باهظة التكاليف وغير مشمولة في التأمين. وعن ذلك، يقول السيد شرارة: "هناك مشكلة بالتأكيد، حيث تعاني جميع البلدان تقريبا [في الشرق الأوسط] من عبء الاضطرابات النفسية بدرجة أعلى من بقية العالم. وينبغي زيادة الإنفاق على الصحة النفسية لتوفير فرص العمل والقوى العاملة في هذا المجال. ولا شك أن تيسير الوصول إلى الرعاية الصحية الجيدة يخدم المجتمع".

 

رغم ذلك، فإن تحسن الانطباعات إزاء الصحة النفسية والعقلية يسير بشكل بطيء في جميع أنحاء المنطقة. وتقول مي السيد: "خلال العامين الماضيين، اتُّخذت بعض الإجراءات لتحسين أوضاع الصحة النفسية والتقليل من وصمة العار التي تلحقها".

 

وعندما بدأ السيد صبرا كتابة مدوناته حول رحلة كفاحه مع القلق والوسواس القهري، كان تجاوب الجمهور إيجابيًا للغاية، مما دفعه إلى العمل مع جمعية إمبريس لإلقاء المحاضرات حول الصحة النفسية في لبنان. كما أنشا أيضا مجموعة دعم على موقع فيسبوك ساعدت في إنقاذ أحد الأشخاص من محاولة الانتحار، على حسب قوله. ويضيف السيد صبرا قائلًا: "يبحث الناس عمن يساعدهم على المعرفة، فهم يريدون شخصًا يمكنهم الحديث إليه عن هذه المواضيع، لكنهم لا يعرفون لمن يلجؤون أو عما يسألون".

 

وتعتبر بعض المبادرات، مثل تعيين وزير للسعادة في دولة الإمارات العربية المتحدة ومحاولة دمج الصحة النفسية ضمن مراكز الرعاية الصحية الأساسية في بعض الدول، أمثلة جيدة على التطور في جانب الصحة النفسية. كما أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أداة قوية في تقديم الدعم لمن يحتاجه والمساعدة في رفع مستوى الوعي بشأن قضايا الصحة النفسية وتشجيع الناس على النظر إليها كمشكلة صحية وليس كوصمة عار أو أمر مخزٍ.

 

وباختصار، فإن الأوضاع آخذة في التحسن...