بحث
استغلال إمكانات التقنيات "فائقة التنقُّل" في العالم العربي

  إنّ اقتصاد المستقبل في الشرق الأوسط آخذ في التغيّر، حيث نجد أن التركيز المنصب على كل من الصناعات التقليدية والصناعات البتروكيميائية الحديثة يتراجع الآن أمام ما يُطلق عليه "اقتصاد الخدمات". يشتمل هذا النموذج الاقتصادي الجديد على كل شيء بدءًا من السياحة إلى التجارة الإلكترونية والرعاية الصحية وحتى البحث العلمي.

 

ولعلّ التقدُّم الذي يجري إحرازه في مجال التكنولوجيا والاتصالات هو الأكثر أهمية بالنسبة لمستقبل التنمية في المنطقة العربية. فعندما ننظر إلى بلدان مثل المملكة العربية السعودية التي تخطط لبناء مدن عملاقة أكبر حجمًا من نيويورك بـ30 مرة، سندرك مدى الأهمية الجوهرية لنشر طبقات الاتصالات المتنقلة لخدمة كل من الهواتف الذكية والمدن الذكية. ونحن بحاجة الآن إلى تطوير مستوى عميق من الاتصالات المتنقلة في جميع مدن الشرق الأوسط بحيث تكون مدمجة هندسيًا في نسيج البنية التحتية القائمة والجديدة. فنحن لا نحتاج - إن صح التعبير - إلى مجرد التقنيات "المتنقلة" وحسب، بل إلى التقنيات "فائقة التنقُّل".

 

رحّبوا بالتقنيات "فائقة التنقُّل"

 

لن يقتصر استخدام الاتصالات "فائقة التنقُّل" في المدن الذكية في الشرق الأوسط على تمكين الناس من التحدّث إلى بعضهم البعض، بل أيضًا سيمتد لإيجاد توجهات جديدة في مجالات النمو الرئيسية، مثل: كفاءة استهلاك الطاقة، وتربية الثروة الحيوانية والألبان في المنطقة، وإدارة النفايات، والترفيه. لكن ما يشغلنا أولًا هو ما يجري تحت السطح، أي البنية التحتية!

 

ثمة إشكاليات تتعلق بالمنحنى الاقتصادي للتقنيات "فائقة التنقُّل" والذي لا يزال في مرحلة التطور. فعندما ننظر إلى منطقة الشرق الأوسط بأكملها، نجد أن التحديات الكبرى تنبع من التجزّء الشديد لمشهد التقنيات المتنقلة، حيث تتفاوت مستويات الدخل الصافي بشكل ملحوظ بين البلدان العربية، كما يتفاوت توفّر الأموال اللازمة للاستثمار في مجال البنية التحتية للاتصالات عن بُعد. لكن أوجه التفاوت هذه لا تعتبر مؤشرات بالمفهوم التقليدي!

 

يظل انتشار التقنيات المتنقلة مرتفعًا حتى في أوساط الاقتصادات العربية ذات العدد السكاني المرتفع من الشرائح الاجتماعية الأدنى. وإليك مشهد التقنيات "فائقة التنقُّل" العربي على أرض الواقع: ستجد فلاحًا مغربيًا لا يمتلك جهاز تلفزيون لكنه يحمل هاتفًا متنقلًا عليه نغمة الاتصال المفضلة لديه مع شبكة من جهات الاتصال (أو القليل منها على الأقل).

 

المنطقة العربية خارج التغطية فائقة التنقُّل

 

رغم استمرار جيوب النمو في المنطقة العربية، يمكننا الجزم بأن المنطقة خارج تغطية التقنيات "فائقة التنقُّل"؛ وذلك بسبب أن منطقة الشرق الأوسط تخلّفت عن أفريقيا في استخدام الخدمات متناهية الصغر المتنقلة (mobile microservices) التي تسمح للمستخدمين محدودي الدخل "الذين بالكاد تصل إليهم خدمة الاتصال " بتنفيذ المعاملات المصرفية وحجز زيارات الرعاية الصحية وغيرها من الأمور الحياتية الأساسية.

 

وهكذا يبدو الفلاح المغربي الذي أشرنا إليه سابقًا أقل اتصالًا بالتقنيات "فائقة التنقُّل"، بل متصلًا بالتقنيات المتنقلة التقليدية وحسب. وعلى سبيل المثال أيضًا، لا تحظى سيدة الأعمال الكويتية التي تنتظر مولودها بخدمة القابلة المتنقلة الافتراضية العربية التي يمكن لنظيرتها في كينيا أن تتمتع بها.

 

تتشابه العديد من أوجه الحياة في الشرق الأوسط مع منطقة أفريقيا الوسطى، ولا سيما القلق إزاء إمدادات المياه وإدارة الماشية الحلوب. إذًا لم لا نستخدم التقنيات "فائقة التنقُّل" لتقديم التمويل متناهي الصغر إلى رواد الأعمال من أصحاب المشاريع الصغيرة على غرار ما تقوم به أفريقيا؟ لم لا نستخدم التقنيات "فائقة التنقُّل" في تطوير تطبيقات برمجيات جديدة تعمل على تحسين حياتنا؟ سنجد مفتاح الإجابة في السؤال نفسه: تطوير برمجيات عربية محلية!

 

يقول زياد المصري، الشريك المؤسس والمدير التنفيذي للتسويق في شركة "فاراري" (Varari) لخدمات التكنولوجيا الأردنية، في هذا السياق: "هناك العديد من العوامل التي تؤدي إلى غياب الخدمات المتنقلة المتقدمة أو ما يسمى بالتقنيات "فائقة التنقُّل" عن منطقتنا، ولعل أهم هذه العوامل هو انعدام الابتكار المنبثق من البحوث النظرية والتطوير العملي. فالشرق الأوسط قائم بشكل عام على النزعة الاستهلاكية، حيث يتم استيراد التكنولوجيا وتعريبها وأحيانا توطينها دون حدوث ابتكار محلي حقيقي".

 

إعادة توجيه عقليتنا الجماعية

 

ويؤكد زياد المصري: "تكاد لا توجد منظومة فعلية تتيح المجال أمام البحوث المعنية بالتطوير على مدى عشر سنوات قادمة؛ وذلك لأن المستثمرين، سواءٌ من القطاع الحكومي أو الخاص، يتطلعون إلى الربح "السريع" الذي يمكن حصده في أقل من ثلاث سنوات. يتوفر مطوّرو البرمجيات والمصممون والمهندسون و علماء البيانات المحليون – ولديهم الكثير من المواقع المناسبة في مختلف أنحاء المنطقة من حاضنات ومسرعات الأعمال – لكن جزء كبير من تفكيرنا منصب تلقائيًا على المدى القصير".

وبناءً عليه، نحن بحاجة إلى إعادة توجيه عقليتنا الجماعية وفق إطار زمني جديد ونحتاج إلى مبرمجين ومطورين ومهندسي برمجيات باللغة العربية من جميع المستويات للبدء في ابتكار خدمات جديدة تتوافق مع خصائص سوقنا المحلية. لا يمكننا اللجوء إلى مجرد "نسخ" تطبيقات الخدمات متناهية الصغر الأفريقية في الرعاية الصحية أو التمويل مع واجهة مستخدم رسومية جديدة ثم تطبيقها في عُمان أو أي دولة عربية، لأن الأمور لا تسير على هذا النحو! إننا نحتاج إلى ابتكارات في التقنيات "فائقة التنقُّل" تتواءم مع اللغة العربية وسلوك المستخدم العربي والتشريعات العربية ومتطلبات الامتثال لدى المؤسسات.

 

وكما يقول ماغنوس جيرن، المدير التنفيذي للابتكار في شركة منصة إدارة الخدمات المتنقلة "دي إم آي" (DMI): "إن السبب الرئيسي وراء تخلّف منطقة الشرق الأوسط عن الابتكار في مجال التقنيات المتنقلة هو انعدام التركيز على خبرات واحتياجات المستهلكين العرب ومحاولة فهمها. فبالنظر إلى كينيا، يعتمد نجاح خدمة "إم-بيزا" (M-Pesa) للمدفوعات متناهية الصغر على تلبية حاجة محددة في السوق، وهي رغبة المجتمع في تحويل مدفوعات صغيرة إلكترونيًا لأغراض مختلفة".

 

يشير ماغنوس جيرن إلى قصتي نجاح مماثلتين في الدنمارك والسويد مع تطبيقي "سويش" (Swish) و"موبايل باي" (MobilePay) المعتمدان على رغبة المستهلكين في إجراء معاملات متنقلة أيسر – علمًا بأن تعاونهما مع البنوك الكبرى أسهم في نجاحهما. في كلا المثالين، نجحت الحلول المتنقلة لأن مقدمي التكنولوجيا كان لديهم فهم واضح للسوق، مما مكّنهم من ابتكار حلول يسهّل على معظم الناس الوصول إليها واستخدامها.

 

ويستطرد ماغنوس جيرن: "وبالنظر إلى الشرق الأوسط، فقد أخفقت معظم خدمات المدفوعات متناهية الصغر في تيسير استخدام منصات المدفوعات لتكون أكثر سهولة من استخدام النقد أو البطاقات الائتمانية، وهنا يمكن للشرق الأوسط أن يتعلم من قصص النجاح في كينيا والدنمارك والسويد حيث يوجد فهم واضح لاحتياجات المستخدم النهائي. ولكن يمكننا القول إن التقنيات "فائقة التنقُّل" موجودة بالفعل في مجال الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، حيث يعمل كثير من الموظفين عن بُعد مع إمكانية الوصول إلى المعلومات والأدوات المفيدة وضمان الحفاظ على أمن وسرية أعمالهم. تستعين هذه الشركات الآن بالخدمات السحابية القائمة، والتي تقدمها شركات مثل أبل وجوجل ومايكروسوفت وغيرها من مقدمي الخدمات.

 

البنية التحتية لتحقيق النجاح على المدى الطويل

 

يؤكد ماغنوس جيرن أن التحدي الرئيسي أمام انتشار التقنيات "فائقة التنقُّل" في العالم العربي يكمن في الشركات الكبرى، حيث إن الانتقال إلى الخدمات السحابية يكون أكثر تعقيدًا مع النظم المتقادمة والمشاكل الأمنية ومقاومة التغيير ومقتضيات الرقابة الإدارية. تحتاج الشركات العربية الكبرى إلى إعادة اكتشاف نفسها لمواكبة عالم التقنيات "فائقة التنقُّل"، وليس مجرد نقل البنية التحتية القائمة إلى السحابة الإلكترونية، إذ من المرجح أن تبوء جهودهم بالفشل. ونؤكد مجددًا أن الأمر يتعلق بالعمل على المدى الطويل!

 

وفي هذا الصدد، تقول جازمن مونتغمري، الرئيس التنفيذي ومؤسس وكالة الاتصالات "سفن براندز" (Seven Brands)، وهي وكالة متعددة الجنسيات ومقرها البحرين وعُمان: "إذا كان متوسط دورة الابتكار – وفقًا لما هو معروف – يفيد بأن المستهلك يستغرق سبع سنوات في المتوسط لاستخدام منتج جديد أو خدمة جديدة، إذًا فإن الأمر يتوقف أيضًا على الاستثمار في تغيير السلوك على المدى الطويل. كما ينبغي أن يتوفر عامل الطلب كي يكون المشروع جديرًا بالاستثمار فيه. وإن تغيير عادات المستهلك وتشجيع الأفراد على تبني طرق جديدة لأداء شؤونهم يتطلب وجود علامات تجارية واتصالات قوية يمكنها كسر القوالب التقليدية، كما يستند إلى رؤى مبتكرة عميقة ودعم حقيقي للاحتياجات التي لم تجد من يلبيها بعد".

 

تشير جازمن مونتغمري إلى تيتو علاي – أحد مؤسسي خدمة "سيل تيل سيل باي" (Celtel Celpay)، أول خدمة متنقلة لتحويل الأموال في العالم النامي، في زامبيا عام 2002 (وذلك قبل ظهور "إم-بيزا" بوقت طويل) – الذي يقول: "إن نجاح الخدمات المتنقلة في أفريقيا هو بمثابة بوابة دخول أفريقيا إلى العصر الرقمي، مما سيدفع قارة أفريقيا إلى تقلّد مكانتها المستحقة في النظام الاقتصادي العالمي". وتوضّح جازمن مونتغمري هنا أن التحدي القائم أمام الشرق الأوسط يكمن في إيجاد روح التغيير الحتمي نفسها وغرسها لدى الأفراد.

 

لدينا اليوم فرصة سانحة لدمج التقنيات "فائقة التنقُّل" في جميع اقتصادات دول جامعة الدول العربية الاثنتين والعشرين. ولكي نطبّق ذلك، لا بد من تحفيز التمكين المحلي والتخلي عن نزعتنا في منطقة الشرق الأوسط إلى "شراء" ما هو غير متوفر لدينا. وحتى أصحاب الهوايات يمكنهم أيضًا إحداث التأثير باستخدام الجيل الجديد من منصات البرمجة التي "لا تتطلب الكثير من الترميز" – فإذا كان لديك فكرة، يمكنك تحقيقها في عالم الواقع.

 

لم تعد التقنيات "فائقة التنقُّل" بعيدة المنال، فما عليك سوى الانطلاق واستخدامها!