بحث
إشكالية الكتب

لم نتوقف عن البحث عن طرق جديدة لمشاركة الكلمات منذ اختراع فكرة الكتابة نفسها. فقد استخدم السومريون الألواح الطينية لكتابتهم المسمارية، وابتكر المصريون ورق البردي كما نقشوا حروف كتابتهم الهيروغليفية على الحجر. استخدم باحثو العالم القديم ورق البرشمان أو جلد الرق - وهو شكل من أشكال الورق المصنوع من جلود الحيوانات وكان لا يزال مستخدمًا في المملكة المتحدة حتى هذا العام لتسطير القوانين الجديدة التي يمررها البرلمان.

مع الانتقال إلى التقنيات الرقمية، اتخذت الكلمات شكلًا مختلفًا مرة أخرى. فقد انتقلنا بسرعة البرق من حلم "المكتب اللاورقي" المحبب جدًا إلى شركات التقنية (وهو ما لم يتحقق قط مما يثير الاستغراب) إلى فكرة "الكتاب اللاورقي". فجأة تبدو الورقة - التي لازمت عالم الكتابة والكتب لقرون لا حصر لها - بالية و عتيقة مثل ألواح الطين التي استخدمها السومريون.

فالناس يقرؤون اليوم باستخدام ثلاث فئات رئيسية من الأجهزة الرقمية: الهواتف النقالة والأجهزة اللوحية "متعددة الأغراض" والقراءات الإلكترونية المتخصصة. وفي بعض الأحيان يستخدمون الأنواع الثلاثة معًا. أقل ما يمكن أن توصف به مضامين هذا التغير على نموذج الأعمال في مجال النشر التقليدي بأنها كارثية!

دعونا نتأمل كتابًا من الكتب قديمة الطراز؛ يتمحور نموذج الأعمال للنشر التقليدي حول تكلفة الإنتاج الورقي وعملية توزيع الكتاب. يحصل بائعو التجزئة على 50٪ من السعر المعلن على الغلاف، ويتفضل 50٪ أخرى لدفع أتعاب المؤلف (10٪ من السعر) وتكلفة الطباعة (10٪ أخرى من السعر) وتكلفة الهدر والعائد (تصل إلى 10٪ أخرى)، وما يتبقى للناشر نسبة تتراوح من 10 إلى 20% من السعر المعلن على الغلاف لتغطية تكاليف التحرير والتصميم والتسويق بالإضافة لأرباحه. ويُحتسب كل شيء كنسبة مئوية من سعر الغلاف، ولكن هذا النموذج يقوم على عدم الكفاءة المطلقة في طباعة وتوزيع الكتب الورقية. عندما نستغني عن الحاجة إلى طباعة كتاب ورقي، فإننا بالتالي نتخلص من أوجه عدم الكفاءة الضخمة في إدارة سلسلة التوريد. ويسقط من المعادلة مخاطرة طباعة الكتب ثم الانتظار على أمل أن تُباع، ذلك بالإضافة إلى إسقاط تكلفة التخزين والتوزيع والدفع لتجار التجزئة.

تصاحب سوق الكتب الإلكترونية تكلفة جديدة، وهي تكلفة "المنصة الإلكترونية" التي تقوم ببيع الكتاب الإلكتروني بالتجزئة وتتقاضى نسبة مئوية، عادةً 30%، من سعر البيع. وهذا يعني أنه يُمكن أن يباع الكتاب الإلكتروني بجزء صغير من السعر المطلوب لتغطية تكلفة الكتب الورقية، حيث إن كانت تكلفة الكتاب الورقي 9,99 دولارات وسعر النسخة الإلكترونية منه 2,99 دولارات فإن الناشر سيجني مالًا أكثر من بيع الكتاب الإلكتروني.

يتضح هنا أن المستهلك سيوفِّر سبعة دولارات. ويتيح ذلك للناشر جمهورا أكبر بكثير لكتبه بسبب انتشار الإنترنت، كما أن الهدر سيكون أقل على مستوى السلسلة كلها. أصبح هذا النموذج الجديد لبيع الكتب فعالًا بشكل خاص لفئة جديدة من المؤلفين، وهم المؤلفون ذاتيو النشر الذين يشكلون الآن النصف تمامًا من مؤلفي أكثر 100 كتاب مبيعًا على موقع أمازون الإلكتروني، كما ويبيع المؤلفون ذاتيو النشر عشرات الآلاف من الكتب في اليوم الواحد. ورغم أن كثير منهم لا يبيعون سوى بضعة كتب فقط كل شهر (إنها حقيقة مزعجة أن 98٪ من الكتب المنشورة تقليديًا في جميع أنحاء العالم لا يُباع منها سوى أقل من 500 نسخة لكل كتاب)، فإن بعضهم يحققون مبيعات مرتفعة في الواقع وبوسعهم جني الملايين من الدولارات دون الحاجة إلى ناشرين.

في الواقع، أصبحت هذه الحركة نحو النشر الذاتي تمثل إشكالية للناشرين التقليديين الذين يكافحون للحفاظ على موقعهم في عالم يمكن للمشترين فيه الدخول عبر الإنترنت وتنزيل أي كتاب يعجبهم في أي وقت يحلو لهم بأسعار تتيح قراءة الكتب لأي شخص في أي وقت.

للأسف نشهد هنا في الشرق الأوسط حركة أبطأ بكثير لتبني هذه التقنية التحويلية الجديدة. وكان الدعم العربي بطيئًا في الوصول لأهم المنصات في منظومة بيع الكتب مثل أبل وغوغل وأمازون. توجد صيغتان لأجهزة القراءة الإلكترونية، منهما صيغة واحدة فقط تدعم اللغة العربية حاليًا (ePub 3) وهذه الصيغة غير معتمدة بشكل كامل من قبل جميع منصات الكتب الإلكترونية. لا يدعم جهاز القراءة كندل من أمازون اللغة العربية على الإطلاق لكن يُشاع أن هذا الوضع سيتغير مع دخول أمازون سوق الشرق الأوسط باستحواذها مؤخرًا على موقع سوق دوت كوم.

معظم قرَّاء الكتب الإلكترونية العربية يستخدمون صيغة المستندات المنقولة PDF التي ينقصها الكثير من الخصائص المرغوبة. وهذا النوع من الملفات غير قابل لتغيير الحجم، وغالبًا ما لا تبدو الأحرف سلسة أو انسيابية، كما أن أحجام الملفات قد تكون كبيرة على نحو غير مجدٍ. إن ظهور أجهزة القراءة بالتنسيق Epub3 باستخدام شاشات الحبر الإلكتروني بالغة الاستقرار، جنبًا إلى جنب مع أجهزة كندل المدعومة على منصة أمازون العالمية الضخمة، سيعني أن أي شخص في العالم العربي سيكون قادرًا على الحصول على أي كتاب يرغبه في لحظة. ومن المحتمل أن يفتح ذلك سوقًا ضخمة جديدة للمؤلفين ذاتيي النشر، الذين يمكنهم الوصول إلى قرَّائهم دون ناشر ودون أن يتحتم عليهم دفع فواتير الطباعة الورقية باهظة التكلفة. وهذا يعني أن التكلفة الفعلية للكتاب يمكن أن تنخفض، مما يجعل الكتب وقراءتها في متناول أي شخص في جميع أنحاء المنطقة. وهذا سيعني بدوره أن باستطاعة أي مؤلف يتحدث العربية أن يحظى بجمهور من العالم العربي بأجمعه وليس فقط جمهور بلد إقامته.

إن ثورة الكتب الإلكترونية العربية قاب قوسين أو أدنى من الحدوث، وستعم فائدتها على الجميع.